كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون}..
إن قضية التشريع بجملتها مرتبطة بقضية الألوهية. والحق الذي ترتكن إليه الألوهية في الاختصاص بتنظيم حياة البشر، هو أن الله هو خالق هؤلاء البشر ورازقهم. فهو وحده صاحب الحق إذن في أن يحل لهم ما يشاء من رزقه وأن يحرم عليهم ما يشاء.. وهو منطق يعترف به البشر أنفسهم. فصاحب الملك هو صاحب الحق في التصرف فيه. والخارج على هذا المبدأ البديهي معتد لا شك في اعتدائه! والذين آمنوا لا يعتدون بطبيعة الحال على الله الذي هم به مؤمنون. ولا يجتمع الاعتداء على الله والايمان به في قلب واحد على الإطلاق!
هذه هي القضية التي تعرضها هاتان الآيتان في وضوح منطقي لا يجادل فيه إلا معتد.. والله لا يحب المعتدين.. وهي قضية عامة تقرر مبدأ عاماً يتعلق بحق الألوهية في رقاب العباد؛ ويتعلق بمقتضى الإيمان بالله في سلوك المؤمنين في هذه القضية.. وتذكر بعض الروايات أن هاتين الآيتين والآية التي بعدهما- الخاصة بحكم الأيمان- قد نزلت في حادث خاص في حياة المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب. وإن كان السبب يزيد المعنى وضوحاً ودقة:
روى ابن جرير.. أنه صلى الله عليه وسلم جلس يوماً فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التخويف. فقال ناس من أصحابه: ما حقنا إن لم نحدث عملاً، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم! فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والورك، وأن يأكل بالنهار؛ وحرم بعضهم النساء.. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم؟ ألا إني أنام وأقوم، وأفطر وأصوم، وأنكح النساء فمن رغب عني فليس مني». فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا...} إلخ.
وفي الصحيحين من رواية أنس رضي الله عنه شاهد بهذا الذي رواه ابن جرير:
قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته. فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها. قالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً. وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له. ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
وأخرج الترمذي- بإسناده- عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي، فحرمت عليَّ اللحم فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم...} الآية.
فأما الآية الخاصة بالحلف والأيمان والتي جاءت تالية في السياق:
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون}..
فالظاهر أنها نزلت لمواجهة هذه الحالة- وأمثالها- من الحلف على الامتناع عن المباح الذي آلى أولئك النفر على أنفسهم أن يمتنعوا عنه، فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الامتناع عنه، وردهم القرآن الكريم عن مزاولة التحريم والتحليل بأنفسهم، فهذا ليس لهم إنما هو لله الذي آمنوا به. كما أنها تواجه كل حلف على الامتناع عن خير أو الإقدام على شر. فكل يمين يرى صاحبها أن هناك ما هو أبّر، فعليه أن يفعل ما هو أبّر، ويكفر عن يمينه بالكفارات المحددة في هذه الآية.
قال ابن عباس: سبب نزولها: القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم.
حلفوا على ذلك فلما نزلت {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} قالوا: كيف نصنع بأيماننا فنزلت هذه الآية.
وقد تضمن الحكم أن الله- سبحانه- لا يؤاخذ المسلمين بأيمان اللغو، التي ينطق بها اللسان دون أن يعقد لها القلب بالنية والقصد مع الحض على عدم ابتذال الأيمان بالإكثار من اللغو بها إذ أنه ينبغي أن تكون لليمين بالله حرمتها ووقارها، فلا تنطق هكذا لغواً..
فأما اليمين المعقودة، التي وراءها قصد ونية، فإن الحنث بها يقتضي كفارة تبينها هذه الآية:
{فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم}.
وطعام المساكين العشرة من أوسط الطعام الذي يقوم به الحالف لأهله.. وأوسط تحتمل أن تكون من أحسن أو من متوسط فكلاهما من معاني اللفظ. وإن كان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد لأن المتوسط هو الأحسن فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام.. أو {كسوتهم} الأقرب أن تكون كذلك من {أوسط} الكسوة.. أو {تحرير رقبة} لا ينص هنا على أنها مؤمنة.. ومن ثم يرد بشأنها خلاف فقهي ليس هذا مكانه.. {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام}.. وهي الكفارة التي يعاد إليها في اليمين المعقودة عند عدم استطاعة الكفارات الأخرى.. وكون هذه الأيام الثلاثة متتابعة أو غير متتابعة فيه كذلك خلاف فقهي بسبب عدم النص هنا على تتابعها. والخلافات الفقهية في هذه الفرعيات ليست من منهجنا في هذه الظلال. فمن أرادها فليطلبها في مواضعها في كتب الفقه. إذ أنها كلها تتفق على الأصل الذي يعنينا وهو أن الكفارة رد لاعتبار العقد المنقوض، وحفظ للأيمان من الاستهانة بها؛ وهي عقود وقد أمر الله- سبحانه- بالوفاء بالعقود. فإذا عقد الإنسان يمينه وكان هناك ما هو أبّر فعل الأبر وكفر عن اليمين. وإذا عقدها على غير ما هو من حقه كالتحريم والتحليل، نقضها وعليه التكفير.
ونعود بعد ذلك إلى الموضوع الأصيل الذي نزلت الآيات بسببه.. فأما من ناحية خصوص السبب فإن الله يبين أن ما أحله الله فهو الطيب، وما حرمه فهو الخبيث. وأن ليس للإنسان أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له. من وجهين: الوجه الأول أن التحريم والتحليل من خصائص الله الرازق بما يجري فيه التحليل والتحريم من الرزق، وإلا فهو الاعتداء الذي لا يحبه الله، ولايستقيم معه إيمان.. والوجه الثاني أن الله يحل الطيبات، فلا يحرم أحد على نفسه تلك الطيبات، التي بها صلاحه وصلاح الحياة؛ فإن بصره بنفسه وبالحياة لن يبلغ بصر الحكيم الخبير الذي أحل هذه الطيبات.
ولو كان الله يعلم فيها شراً أو أذى لوقاه عباده. ولو كان يعلم في الحرمان منها خيراً ما جعلها حلالاً.. ولقد جاء هذا الدين ليحقق الخير والصلاح، والتوازن المطلق، والتناسق الكامل، بين طاقات الحياة البشرية جميعاً، فهو لا يغفل حاجة من حاجات الفطرة البشرية؛ ولا يكبت كذلك طاقة بناءة من طاقات الإنسان، تعمل عملاً سوياً، ولا تخرج عن الجادة. ومن ثم حارب الرهبانية، لأنها كبت للفطرة، وتعطيل للطاقة وتعويق عن إنماء الحياة التي أراد الله لها النماء، كما نهى عن تحريم الطيبات كلها لأنها من عوامل بناء الحياة ونموها وتجددها.. لقد خلق الله هذه الحياة لتنمو وتتجدد، وترتقي عن طريق النمو والتجدد المحكومين بمنهج الله. والرهبانية وتحريم الطيبات الأخرى تصطدم مع منهج الله للحياة. لأنها تقف بها عند نقطة معينة بحجة التسامي والارتفاع. والتسامي والارتفاع داخلان في منهج الله للحياة، وفق المنهج الميسر المطابق للفطرة كما يعلمها الله.
وخصوص السبب- بعد هذا- لا يقيد عموم النص. وهذا العموم يتعلق بقضية الألوهية والتشريع- كما أسلفنا- وهي قضية لا تقتصر على الحلال والحرام في المآكل والمشارب والمناكح. إنما هو أمر حق التشريع لأي شأن من شئون الحياة..
ونحن نكرر هذا المعنى ونؤكده؛ لأن طول عزلة الإسلام عن أن يحكم الحياة- كما هو شأنه وحقيقته- قد جعل معاني العبارة تتقلص ظلالها عن مدى الحقيقة التي تعنيها في القرآن الكريم وفي هذا الدين. ولقد جعلت كلمة الحلال وكلمة الحرام يتقلص ظلهما في حس الناس، حتى عاد لا يتجاوز ذبيحة تذبح، أو طعاماً يؤكل، أو شراباً يشرب، أو لباساً يلبس، أو نكاحاً يعقد.. فهذه هي الشئون التي عاد الناس يستفتون فيها الإسلام ليروا: حلال هي أم حرام! فأما الأمور العامة والشئون الكبيرة فهم يستفتون في شأنها النظريات والدساتير والقوانين التي استبدلت بشريعة الله! فالنظام الاجتماعي بجملته، والنظام السياسي بجملته، والنظام الدولي بجملته؛ وكافة اختصاصات الله في الأرض وفي حياة الناس، لم تعد مما يستفتى فيه الإسلام!
والإسلام منهج للحياة كلها. من اتبعه كله فهو مؤمن وفي دين الله. ومن اتبع غيره ولو في حكم واحد فقد رفض الإيمان واعتدى على ألوهية الله، وخرج من دين الله. مهما أعلن أنه يحترم العقيدة وأنه مسلم. فاتباعه شريعة غير شريعة الله، يكذب زعمه ويدمغه بالخروج من دين الله.
وهذه هي القضية الكلية التي تعنيها هذه النصوص القرآنية، وتجعلها قضية الإيمان بالله، أو الاعتداء على الله.. وهذا هو مدى النصوص القرآنية. وهو المدى اللائق بجدية هذا الدين وجدية هذا القرآن، وجدية معنى الألوهية ومعنى الإيمان.
وفي سياق قضية التشريع بالتحريم والتحليل، وفي خط التربية للأمة المسلمة في المدينة، وتخليصها من جو الجاهلية ورواسبها وتقاليدها الشخصية والاجتماعية، يجيء النص القاطع الأخير في تحريم الخمر والميسر مقرونين إلى تحريم الأنصاب والأزلام. أي إلى الشرك بالله.
{يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين}..
لقد كانت الخمر والميسر والأنصاب والأزلام من معالم الحياة الجاهلية، ومن التقاليد المتغلغلة في المجتمع الجاهلي. وكانت كلها حزمة واحدة ذات ارتباط عميق في مزاولتها، وفي كونها من سمات ذلك المجتمع وتقاليده.. فلقد كانوا يشربون الخمر في إسراف، ويجعلونها من المفاخر التي يتسابقون في مجالسها ويتكاثرون؛ ويديرون عليها فخرهم في الشعر ومدحهم كذلك! وكان يصاحب مجالس الشراب نحر الذبائح واتخاذ الشواء منها للشاربين وللسقاة ولأحلاس هذه المجالس ومن يلوذون بها ويلتفون حولها! وكانت هذه الذبائح تنحر على الأنصاب وهي أصنام لهم كانوا يذبحون عليها ذبائحهم وينضحونها بدمها (كما كانت تذبح عليها الذبائح التي تقدم للآلهة أي لكهنتها!).. وفي ذبائح مجالس الخمر وغيرها من المناسبات الاجتماعية التي تشبهها كان يجري الميسر عن طريق الأزلام. وهي قداح كانوا يستقسمون بها الذبيحة، فيأخذ كل منهم نصيبه منها بحسب قدحه. فالذي قدحه (المعلى) يأخذ النصيب الأوفر، وهكذا حتى يكون من لا نصيب لقدحه. وقد يكون هو صاحب الذبيحة فيخسرها كلها!
وهكذا يبدو تشابك العادات والتقاليد الاجتماعية؛ ويبدو جريانها كذلك وفق حال الجاهلية وتصوراتها الاعتقادية.
ولم يبدأ المنهج الإسلامي في معالجة هذه التقاليد في أول الأمر، لأنها إنما تقوم على جذور اعتقادية فاسدة؛ فعلاجها من فوق السطح قبل علاج جذورها الغائرة جهد ضائع. حاشا للمنهج الرباني أن يفعله! إنما بدأ الإسلام من عقدة النفس البشرية الأولى. عقدة العقيدة. بدأ باجتثاث التصور الجاهلي الاعتقادي جملة من جذوره؛ وإقامة التصور الإسلامي الصحيح. إقامته من أعماق القاعدة المرتكزة إلى الفطرة.. بيّن للناس فساد تصوراتهم عن الألوهية وهداهم إلى الإله الحق. وحين عرفوا إلهم الحق بدأت نفوسهم تستمع إلى ما يحبه منهم هذا الإله الحق وما يكرهه. وما كانوا قبل ذلك ليسمعوا! أو يطيعوا أمراً ولا نهياً؛ وما كانوا ليقلعوا عن مألوفاتهم الجاهلية مهما تكرر لهم النهي وبذلت لهم النصيحة.. إن عقدة الفطرة البشرية هي عقدة العقيدة؛ وما لم تنعقد هذه العقدة أولاً فلن يثبت فيها شيء من خلق أو تهذيب أو إصلاح اجتماعي.
إن مفتاح الفطرة البشرية هاهنا. وما لم تفتح بمفتاحها فستظل سراديبها مغلقة ودروبها ملتوية، وكما كشف منها زقاق انبهمت أزقة؛ وكلما ضاء منها جانب أظلمت جوانب، وكلما حلت منها عقدة تعقدت عقد، وكلما فتح منها درب سدت دروب ومسالك.. إلى ما لا نهاية..
لذلك لم يبدأ المنهج الإسلامي في علاج رذائل الجاهلية وانحرافاتها، من هذه الرذائل والانحرافات.. إنما بدأ من العقيدة.. بدأ من شهادة أن لاإله إلا الله.. وطالت فترة إنشاء لا إله إلا الله هذه في الزمن حتى بلغت نحو ثلاثة عشر عاماً، لم يكن فيها غاية إلا هذه الغاية! تعريف الناس بإلههم الحق وتعبيدهم له وتطويعهم لسلطانه.. حتى إذا خلصت نفوسهم لله؛ وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله.. عندئذ بدأت التكاليف- بما فيها الشعائر التعبدية- وعندئذ بدأت عملية تنقية رواسب الجاهلية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأخلاقية والسلوكية.. بدأت في الوقت الذي يأمر الله فيطيع العباد بلا جدال. لأنهم لا يعلمون لهم خيرة فيما يأمر الله به أو ينهى عنه أياً كان!
أو بتعبير آخر: لقد بدأت الأوامر والنواهي بعد الإسلام.. بعد الاستسلام.. بعد أن لم يعد للمسلم في نفسه شيء.. بعد أن لم يعد يفكر في أن يكون له إلى جانب أمر الله رأي أو اختيار.. أو كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين تحت عنوان: انحلت العقدة الكبرى:
.. انحلت العقدة الكبرى.. عقدة الشرك والكفر.. فانحلت العقد كلها؛ وجاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاده الأول، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي؛ وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى، فكان النصر حليفه في كل معركة. وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى؛ ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى؛ ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى. حدثوا الرسول عما اختانوا أنفسهم؛ وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد.. نزل تحريم الخمر والكؤوس المتدفقة على راحاتهم؛ فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة؛ وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة.
ومع هذا فلم يكن تحريم الخمر وما يتصل بها من الميسر أمراً مفاجئاً.. فلقد سبقت هذا التحريم القاطع مراحل وخطوات في علاج هذه التقاليد الاجتماعية المتغلغلة، المتلبسة بعادات النفوس ومألوفاتها، والمتلبسة كذلك ببعض الجوانب الاقتصادية وملابساتها.
لقد كانت هذه هي المرحلة الثالثة أو الرابعة في علاج مشكلة الخمر في المنهج الإسلامي: